17 - 07 - 2024

وجهة نظري | دموع في ليلة عيد

وجهة نظري | دموع في ليلة عيد

نتحايل على الأيام لتمر بسلام وبأدنى خسائر في الروح .. يأتينا العيد ، نتغاضى عن كل ما في القلب من أوجاع ، نشتاق لفرحة ، نغتصب الضحكة من بين براثن زمن عبوس صعب ، نحاول أن نلقى كل هموم جاثمة فوق الروح نطرحها أرضا أو نحبسها تحت ركام النفس نطويها نجبرها على الانزواء .. نلتمس هدنة نتنفس فيها البهجة، علها تخفف قدرا من هموم خانقة الأنفاس.

نخرج صباحا نبحث عن أمل مفقود .. نمنى أنفسنا أن نحلم به في يوم العيد .. نتفاءل رغما عنا ، نرسم فرحة تزداد بعدما تتلاقى وجوه المصلين المستبشرة ، نردد التكبيرات ، نشعر بالبهجة ، نقاوم ما يكمن في القلب من أوجاع ، نحاول وأد مشاعر شجن تتسلل رغما عنا ، نتجاهلها مصرين ألا تفسد فرحتنا ولو لأيام.

نلتمس بوجوه الصغار إشراقة تضى قدرا من ظلام النفس المعتمة ، نحتضن قلوبا غضة ونفوسا لم تتكدر بعد بهموم الزمن الصعب ، نلهو معهم متناسين لهو الحياة بنا .. نطلق بالونات ملونة لأعلى آملين أن تأتى أيامهم القادمة بألوان تسر خاطرهم ، ترتفع أيادينا في أيام البشر بالدعاء أن يكون زمانهم أفضل وأن يمر الصعب وينفك الكرب وتنزاح الغمة.

نشتاق لفرحة نأمل أن يأتينا العيد بها ، نفتح قلوبنا لنعانق الحياة علها تكف عن عبثها المجنون وتفك تكشيرة وجهها العبوس. نضحك رغم الأحزان ، لكنها تعاندنا لتفرض سطوتها بقسوة من جديد.

خبر مفزع عن رحيل مدير مدرسة صفط الشرقية بمحافظة المنيا .. لم يتم الخمسين بعد ، توقف قلبه المثقل بالهموم فجأة .. هبوط حاد في الدورة الدموية ، أزمة قلبية ربما تفاجيء الكثيرين ، لكنها في حالة الأستاذ سليمان محمد عبد الحميد مدرس أول العلوم وقعت كالصدمة ، كشفت عن حجم معاناة أب يجاهد ، يحفر في الصخر ، يتحمل فوق ما يستطيع ليوفر أدنى حد من حياة كريمة لأسرته.

مرتبه الضئيل من عمله كمدير مدرسة لايكفي احتياجات أسرته في زمن فاق فيه الغلاء حد الجنون .. بحث عن عمل إضافى يعينه على عبء ثقيل جاسم فوق الروح كاتم لأنفاس الحياة ، لم يتردد في العمل بالبناء ، يحمل الطوب على كاهله ، يصعد ويهبط بحمله الضخم ، يقطع المسافات الطويلة به .. يتناسى ثقل الحمل على أمل أن يظفر بجنيهات يعلم الله وحده قدرها ، لكنها أقصى مايمكن أن تجود به الظروف الصعبة.

لم يحمل سليمان أي نصيب من اسمه ، لم يمتلك خزائن ضخمة ، لم يتبوأ عرشا ، لم يحمل خاتما يحقق له المستحيل ، لم تسر الدنيا وفق هواه.

عانده الحظ حد البخل .. لكن هل حقا كان ضحية حظ عابس؟ أم أن الأمر أكبر وأخطر من مجرد ضربة حظ ؟ هو بالفعل كذلك .. لا دخل لحسن حظ أو سوئه ، لكنها سوء الظروف وتردى الأحوال وتفاقم الأزمات.

ظروف وأحوال وأزمات خانقة لم يكن مدير المدرسة - عامل البناء وحده من يعانى منها .. ملايين مثل سليمان ليس لهم نصيب من الحياة.

هل يعلم المسؤولون عنهم شيئا؟! هل بكى أحدهم حزنا على حياة مدير المدرسة المكافح!.. هل يدرى هؤلاء بأحوال ملايين مثله يكابدون ويحفرون في الصخر من أجل جنيهات محدودة لا تكفى أبسط الإحتياجات في زمن الغلاء الصعب!.. هل يخاصم النوم جفونهم ويقض مضاجعهم ألما وحسرة وشعورا بالمسؤولية تدفعهم للبحث عن حل يخفف معاناة هؤلاء المأزومين؟ كم سليمان يجب أن يموت حتى يشعر هؤلاء بحجم معاناة البسطاء؟ وكم سليمان مات حزنا وتعبا وحسرة وألما وهو يكابد ضنك الحياة ، وكم سليمان سيموت دون أن يشعر يوما بطعم الحياة؟!

يموت كل يوم سليمان ، تزهق روح البعض تذهب لبارئها ويعيش آخرون كالأموات ..

يموت البسطاء كمدا ولا يعبأ أحد بهم ، يتشدق المسؤولون بمشروعات لا ترى سوى عيونهم مزاياها ولا تلمس سوى أيديهم نفعها .. يمهدون الطرق ويشيدون الكبارى الخرسانية وينسون كبارى الروح التي تنقل البشر من حال الضيق والفقر والعجز لرحابة العيش ورغده وراحته.

جدد رحيل مدير المدرسة الشقيان الأحزان .. بدد فرحة العيد ..كشف بقسوة عن هموم كنا نجاهد أن نخفيها ولو لبضعة أيام .. ليس من حقنا الفرحة ، فالفرحة الحقة تأتى بعدما تختفى معاناة كل سليمان.
---------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | بائعة الخبز وتجار الأوهام